المقاومة الفلسطينية- من السلم إلى السلاح في وجه الاحتلال الإحلالي

المؤلف: عياد أبلال09.24.2025
المقاومة الفلسطينية- من السلم إلى السلاح في وجه الاحتلال الإحلالي

في خضم الجدالات المحتدمة، حيث يصم البعض فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها "حماس"، بالإرهاب ويدعون للتطرف، بينما يمجد آخرون إسرائيل باعتبارها حصنًا للحضارة الغربية في قلب الشرق الأوسط، وفي ظل تبني وجهات نظر تكرس لفكرة فلسطين كأرض ميعاد حصرية للشعب اليهودي، وتتجاهل الوجود الفلسطيني الأصيل، أو تعتبر "طوفان الأقصى" مجرد عدوان من "حماس" لم يجلُب سوى الخراب والموت، مع الترويج لحلول سلام زائفة ترقى للاستسلام، تتوارى تفاصيل حيوية وحقائق تاريخية وإنسانية تكشف عن الطبيعة الاستيطانية الاستبدادية للمشروع الصهيوني في فلسطين.

تتغاضى هذه النقاشات عن حقيقة أن المقاومة بدأت سلمية، وأن الحياة بلا حرية ليست حياة، وهو ما تسعى إليه القوى الإمبريالية المدفوعة بجشع الرأسمالية الاحتكارية، والتي وجدت في إسرائيل أداة طيعة لتحقيق مآربها في المنطقة.

المقاومة: من المطالبة السلمية إلى حمل السلاح دفاعًا عن الحق

إن استقراء خطاب المقاومة عالميًا يكشف عن صراعات عميقة حول السلطة والنفوذ والحق في الوجود، فالمقاومة بطبيعتها تتضمن خطابًا عن الحقوق والملكية، وهما مفهومان يدوران في فلك السلطة والسيادة، وبما أن الملكية كانت ولا تزال منبعًا للتفاوت بين البشر، فقد استُخدم العنف تاريخيًا للاستيلاء على حقوق الآخرين.

منذ إرساء مفهوم الملكية، أصبحت الأرض محورًا للنزاعات، وتصاعدت حدة هذه النزاعات مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية، من الزراعة إلى الصناعة، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، وباتت الشرعية تُمنح لمن يمتلك القوة لا لمن يملك الحق، وهو ما تجسد في صعود الرأسمالية وتطورها.

لقد طور البشر عبر التاريخ نظمًا وقوانين لإدارة الملكية، وكان الاحتكام إلى هذه النظم يتم سلميًا في بداية الأمر، في محاولة لتسوية النزاعات الناجمة عن الاعتداء على حق الملكية، سواء كانت ملكية فردية أو جماعية.

سواء كان الاعتداء على الأرض والملكية فرديًا أو جماعيًا، أو كان اعتداءً إمبرياليًا من دول على شعوب، ظل العمل السلمي هو نقطة البداية للمطالبة بالحق والدفاع عنه، وهو ما طبع أشكال المقاومة المختلفة في أنحاء العالم.

فالمقاومة في فيتنام، وأيرلندا، وجنوب أفريقيا، وشمال أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، والهند، والصين، وسوريا، والعراق، وغيرها من المناطق التي شهدت توترات نتيجة الحقبة الاستعمارية والإمبريالية، بدأت بأساليب سلمية قبل أن تتطور إلى عصيان مدني ومقاومة مسلحة، وهو ما يترجم ميل الإنسان الفطري نحو السلم، فعلى الرغم من ارتباط العنف والكراهية بالجانب الحيواني في الإنسان، إلا أن ازدهار هذه المشاعر مرتبط بالصراع على الملكية.

لذا، فإن الدموية التي صاحبت الرأسمالية في التاريخ تفوق ما شهدته الحروب الدينية في القرون الوسطى، ويجب أن نتذكر هنا الحروب وأشكال العنف المختلفة التي أوجدتها الإمبريالية في العالم، والتي جعلت من خلق مناطق التوتر، وهي إستراتيجية أمريكية بامتياز، إحدى أهم آليات الهيمنة الرأسمالية الاستغلالية في صيغتها الليبرالية المتوحشة.

وإذا كانت حروب اليوم تدور رحاها من أجل السيطرة على الثروات الطبيعية ومقدرات الشعوب، وهي حروب رأسمالية في جوهرها وإمبريالية في إستراتيجيتها، فإن المقاومة ضد الاحتلال، على الرغم من كونها سلمية في الأصل، تنتهي بنزاعات مسلحة كلما فشلت المساعي السلمية، والسبب ليس اختلاف الرؤى السياسية والفكرية، بل لأن جوهر الاستعمار والرأسمالية الاحتكارية يقوم على نزع الحقوق بالعنف والسلاح.

لذلك، فالمقاومة فعل إنساني عالمي لرفع الظلم والاستغلال، وحق في الوجود والحياة، وبما أن الغصب هو أساس النزعة الإمبريالية التي أفرزت أشكال المقاومة المختلفة، فإن المقاومة تصبح الحل الوحيد لرفع الظلم والاستغلال ومواجهة الاعتداء على الأرض والإنسان والثقافة.

بناءً على ذلك، تصبح المقاومة في فلسطين حقًا وجوديًا وإنسانيًا للدفاع عن أرض مغتصبة وإنسان مستعبد وثقافة يراد تفكيكها، بما يشمل الدين واللغة والتقاليد والعادات.

لهذا فالصراع ليس حربًا دينية بين الإسلام واليهودية، بل هو مقاومة ضد الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي وضد الإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية.

وسواء تعلق الأمر بحماس أو بباقي فصائل المقاومة، فإن جوهر الصراع ليس قتل اليهود، بل مقاومة إسرائيل الاستيطانية والإحلالية.

وإذا كانت واجهة المقاومة مسلحة، فإن الخلفية الفكرية تجد مبرراتها التاريخية في النزعة الصهيونية التي اتخذت من الدين اليهودي في صيغته التوراتية والتلمودية مبررًا أسطوريًا لاحتلال أرض فلسطين.

وعلى هذا الأساس التاريخي والفكري يجب أن تنشأ السردية العربية الإسلامية الكونية لفلسطين ضد الاحتلال، كسردية مناهضة للإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا باستحضار دور أثرياء اليهود في تطور الرأسمالية والإمبريالية، كما أشار إلى ذلك كارل ماركس، وزيجموند باومان وحنا أرنت.

هؤلاء الأثرياء اليهود كان لهم دور كبير على حساب الفقراء من يهود أوروبا الشرقية في المحرقة ومعاداة اليهود، في حين كان اليهود ينعمون بالاستقرار في البلدان العربية والإسلامية.

الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي: قراءة في جذور الصراع

قبل الانتداب البريطاني، كان الشعب الفلسطيني، بمسلميه ومسيحييه ويهوده، يعيش في استقرار على أرض فلسطين، ولكن المشكلة بدأت بسماح السلطات العثمانية للأجانب بتملك الأراضي، وتصادف ذلك مع احتلال البريطانيين لفلسطين، ولم يكن عدد اليهود يتجاوز ثلاثة بالمئة من يهود العالم، وقد كانوا أقل من ستين ألفًا أثناء وعد بلفور، الذي شجع الهجرة لتأسيس دولة لليهود على أرض فلسطين.

وشملت هجرة اليهود مختلف بلدان أوروبا والاتحاد السوفياتي لاستيطان أرض فلسطين، وبدأوا بتدريب اليهود على حمل السلاح، وهو ما انتبه إليه الفلسطينيون، خاصة بعد تأسيس الصهاينة منظمة "هاغاناه" المسلحة، مما دفعهم للتمسك بأراضيهم، ونشأت اشتباكات دموية برعاية بريطانية لليهود.

من هنا نشأت بذور مقاومة فلسطينية للانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني، وكانت هذه المقاومة سلمية في معظمها، عبارة عن احتجاجات ومسيرات وإضرابات، وعلى رأسها الإضراب العام لسنة 1936.

كما اكتست المقاومة الفلسطينية في بدايتها صيغة عربية وإسلامية، لكنها لم تكن مقاومة دينية أو حربًا ضد اليهود، بل مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، والدليل أن اليهود المستقرين كأقلية مع المسلمين والمسيحيين في فلسطين كانوا ينعمون بالاستقرار والتعايش.

لقد أدى بروز الصهيونية وتحويل أرض فلسطين إلى أرض لليهود وفق رؤية دينية إلى قلب الأمور، خاصة أن اليهود في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عاشوا مع العرب والمسلمين في انسجام وسلام، ولم يعرفوا ما عاشه يهود أوروبا من معاداة وعنف، بل ولم تعرف أية منطقة عربية محرقة لليهود، مما يعني أن الصراع نشأ بعد معاناة اليهود في فرنسا، وتحديدًا عقب محاكمة دريفوس، وهو ما أثر في هيرتزل الذي ألف كتاب "دولة اليهود"، حيث بدأت الحركة الصهيونية في الدعاية لاستيطان أرض فلسطين وطرد شعبها لتأسيس دولة إسرائيل.

في هذا السياق نشأت مجموعة عز الدين القسام، وفرحان السعدي كأول لبنة للمقاومة الفلسطينية، ولكن المقاومة منيت بهزيمة كبيرة، خاصة بعد 1945، حيث اشتد التنسيق اليهودي البريطاني لتوسيع المستوطنات، وشهدت فلسطين النكبة الكبرى بعد حرب 1948، واحتلت إسرائيل كامل الضفة الغربية، وأسست دولتها التي حظيت باعتراف الأمم المتحدة ضدًا على الشرعية الفلسطينية.

لكن هذا الحل لم يرَ النور، وبقيت إسرائيل تتمدد وتستوطن الأراضي، وهو ما دفع الفلسطينيين سنة 1964 لتنظيم أنفسهم في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم جاءت حرب 1967 واحتلت إسرائيل قطاع غزة، وعاد الفلسطينيون لحمل السلاح، وتأسست منظمة "أيلول الأسود".

بيدَ أن حرب أكتوبر 1973، كانت مفصلية في التحول الذي ستعرفه القضية الفلسطينية، حيث شكلت بداية انتقال الصراع من صراع عربي- إسرائيلي إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي، بعدما تخلى العرب عن فلسطين، وهو ما مكّن إسرائيل من اجتياح بيروت في سنة 1982، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، عقب مجزرة صبرا وشاتيلا، ولم تفِ إسرائيل بالعهود والقانون الدولي، وهو ما جعل عددًا من الباحثين يدعونها بالدولة المارقة.

بعدما كان للمنظمة ممثلون في جامعة الدول العربية منذ 1964، وجدت المنظمة نفسها في عزلة، خاصة بعد نهاية حرب أكتوبر 1973، واقتصار السادات على استرجاع سيناء لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في كامب ديفيد، حيث تم الاتفاق من جديد على تطبيق حل الدولتين إلى حدود 1967، وضمان حق العودة للفلسطينيين، وهو ما لم تطبقه إسرائيل.

لقد وجد الفلسطينيون أنفسهم مجبرين على المقاومة السلمية، خاصة مع استمرار سياسة إسرائيل الاستيطانية، حيث بدأت الانتفاضة الأولى سنة 1987 لتنتهي بتوقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في الوجود.

بالمقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي للفلسطينيين، وتم الاتفاق على الحدود وحق السلطة بخلق مؤسساتها السياسية والإدارية، وتنفيذ ما ترتب عن كامب ديفيد، كحل انتقالي لتأسيس الدولة الفلسطينية.

وبالرغم من تراجع المطالب الفلسطينية إلى مجرد حكم ذاتي، فقد تنصلت إسرائيل من بنود الاتفاق، واقتحمت قوات الاحتلال مقر الرئاسة الفلسطينية، وتمت محاصرة عرفات، واستؤنفت سياسة المستوطنات والاعتداء على الفلسطينيين، وإحكام الحصار على قطاع غزة، مما جعل الفلسطينيين يعودون مكرهين لاستئناف المقاومة من خلال الانتفاضة الثانية ما بين 2000 و2005.

إن التحول في مسار المقاومة نحو الخيار العسكري لم يكن نتيجة اختيارات، بل حتمية تاريخية بالنظر إلى فشل مسار المقاومة السلمية، ورد فعل طبيعي على عنف إسرائيل وحروب الإبادة بدعم من اللوبي الصهيوني.

ولذلك فبروز حماس في أثناء الانتفاضة الأولى سنة 1987، والتطلع إلى الواقع الميداني سيكشف أن عنف حماس يتناسب وتضخم حرب الإبادة ضد الفلسطينيين.

وبالرغم من فترات الهدوء، وقبول حماس باللعبة السياسية ودخول الانتخابات، والفوز بها في غزة، بما يجعلها تقبل بمستلزمات الحداثة السياسية من ديمقراطية وقبول بالاختلاف والتعددية، فإن إسرائيل في رفضها لكل انتقال ديمقراطي ومدنية سياسية في فلسطين، جعلت من حماس عدوها التاريخي، بعدما أصبحت السلطة الفلسطينية مجردة من السلاح وبعيدة عن كل أشكال المقاومة.

ناهيك عن مسلسل الفساد الإداري والمالي الذي انتشر في صفوف هذه السلطة، فاستمر مسلسل الاغتيالات في صفوف قادة حماس، ولرموزها السياسيين داخل فلسطين وخارجها، على إيقاع صراع الإخوة الأعداء، حيث نشأ صراع فلسطيني داخلي بين منظمة التحرير وحماس، بين ضفة غربية مهادنة وغزة مقاومة.

من صراع عربي- إسرائيلي إلى فلسطيني- إسرائيلي: تحولات في مسار القضية

إن قراءة تاريخ القضية الفلسطينية تكشف عن جوهر الاحتكارية والإمبريالية الغربية، من خلال إضعاف جيوش المنطقة وإفشال مخططات التنمية، لتبقى الدول العربية مجرد أداة من أدوات الإمبريالية، وهو ما جعل الصراع مع إسرائيل يتحول من بعده العربي القومي إلى بعده القُطري الوطني المرتبط بفلسطين.

فسردية المقاومة وتحولاتها من الصراع العربي- الإسرائيلي إلى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وبروز محور المقاومة، ليست سوى تحول في شكل المقاومة وإستراتيجياتها، والخلفية المرجعية للمقاومة هي الدفاع عن الأرض والإنسان والثقافة، وفلسطين ليست مجرد بقعة يمكن تغييرها وتفويتها واستيطانها، بل هي رمز للأرض بصيغة الجمع، والإنسان ليس مجرد إنسان فلسطيني، بل هو الإنسان في العالم، والثقافة ليست ثقافة فلسطينية، بل هي ثقافة كل الأديان، وهي ثقافة الكرامة والحرية والإنسانية.

من هنا يمكن فهم الهبة الإنسانية في مناصرة غزة في صفوف الأحرار من العالم، والمسيرات الاحتجاجية في شوارع أميركا وبريطانيا وفرنسا والنرويج وإسبانيا وأيرلندا ودول أميركا اللاتينية، والوقفات المساندة لغزة في صفوف طلبة الجامعات الغربية، وتوحد 900 خبير ومفكر عالمي في توصيف الاحتلال الإسرائيلي وحربه على غزة بالإبادة الجماعية.

إن المقاومة واحدة، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، وهي حق شرعي ووجودي للدفاع عن الأرض والعرض والحياة والثقافة.

وإذا كانت أشكال المقاومة تختلف باختلاف السياقات، فإنها تتوحد في مقاومة الاستعمار والاحتلال، ومقاومة قيم الشر، وليس هناك أشرف من مقاومة الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية التي تمثل إسرائيل أحد رموزها، بما يفيد أن تحرر العالم يمر عبر التحرر من الصهيونية والرأسمالية الاحتكارية في صيغها الإمبريالية الجديدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة